فصل: المسألة الثانية عشرة: حكم القراءة على المقتدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لنا حجج ووجوه:
الحجة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربي، وواظب عليه طول عمره، فوجب أن يجب علينا مثله، لقوله تعالى: {فاتبعوه} والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطًا في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي.
الحجة الثانية: أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»، ولقوله عليه السلام: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ».
الحجة الثالثة: أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي، فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله عليه السلام: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة» قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي، فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار.
الحجة الرابعة: أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى، فمن عدل عن هذا الطريق دخل قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115].
الحجة الخامسة: أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] ولقوله عليه السلام للإعرابي: «ثم إقرأ بما تيسر معك من القرآن» وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه: الأول: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 192] إلى قوله: {بِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] الثاني: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه قُرْءانًا أعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنًا أعجميًا، فيلزم أن يقال: أن كل ما كان أعجميًا فهو ليس بقرآن.
الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] فهذا الكلام المنظوم بالفارسية: إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله، أو لا عينه ولا مثله، والأول معلوم البطلان بالضرورة، والثاني باطل، إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلًا لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتيًا بمثل القرآن، وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله: {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئًا للقرآن، وهو المطلوب، فثبت أن المكلف أمر بقراءة ولم يأتِ به، فوجب أن يبقى في العهدة.
الحجة السادسة: ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب».، فنقول: هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن، والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع، وبيانه من وجوه: الأول: أن أحدًا من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن.
الثاني: يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتيًا بقرآن مثل الأول وذلك باطل.
الحجة السابعة: روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: «قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر». وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح، وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت.
الحجة الثامنة: يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاهًا رحمانًا ومرحيانًا وهذا هو عين ترجمة {بسم الله الرحمن الرحيم}، فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل، ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنًا.
الحجة التاسعة: أنا إذا ترجمنا قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ} [الكهف: 19] كان ترجمته بفرستيديكي أزشما بانقره بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست ياره ازان بياورد، ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظًا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات، لأنه لا قائل بالفرق، وأيضًا فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] إلى قوله: {عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] فإن ترجمتها لا تكون شتمًا من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى، وكذلك قوله تعالى: {ادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا} [البقرة: 61] فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظًا ومعنى، وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا: إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا: تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظًا ومعنى.
الحجة العاشرة: قوله عليه الصلاة والسلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافِ كافِ» ولو كا نت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآنًا لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف، لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة، وحينئذٍ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة.
الحجة الحادية عشرة: أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات، ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا.
فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة، وبقراءة زيد وإنسان، ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفًا من القرآن بل كان مواظبًا على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعًا ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين.
الحجة الثانية عشرة: أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان، وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب، ولما كان باطلًا علمنا فساد هذا القول.
الحجة الثالثة عشرة: لو كان هذا جائزًا لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلي بها، ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية، ولبلال في أن يقرأ بالحبشية؛ ولو كان هذا الأمر مشروعًا لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق، لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس في تعلم اللغة العربية، ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية، وذلك لا يقوله مسلم.
الحجة الرابعة عشرة: لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية، وهذا جائز وذاك غير جائز، وبيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئًا لم يفهم من القرآن شيئًا ألبتة، أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا، ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني، قال تعالى: {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة، وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد، فلو كانت القراءة بالفارسي قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة.
الحجة الخامسة عشرة: المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم، والفارق ظاهر، أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتًا، والأصل في الثابت البقاء، وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه، وذلك من وجهين: الأول: إن الإعجاز في فصاحته؛ وفصاحته في لفظه والثاني: أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ، وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونًا عن التحريف، وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود، فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر.
واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن، وقراءة الترجمة قراءة القرآن، ويدل عليه وجوه: الأول: روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلًا القرآن فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43، 44] وكان الرجل عجميًا فكان يقول: طعام اليتيم: فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى صُحُفِ إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19] ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث: أنه تعالى قال: {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19] ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم، ثم أنه تعالى سماه قرآنًا، فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن.
والجواب عن الأول أن نقول: إن أحوال هؤلاء عجيبة جدًا، فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود، ثم أن الحنفية لا تلتفت إلى هذا، بل نقول: إن القائل به شاك في دينه، والشاك لا يكون مؤمنًا، فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة؟ ولعمري هذه المناقضات عجيبة، وأيضًا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به؛ وأن نقول: أنه رجع عن هذه المذاهب، وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين، وقوله تعالى: {لأِنذِرَكُمْ} فالمعنى لأنذركم معناه، وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها.

.المسألة الثانية عشرة: حكم القراءة على المقتدي:

قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي؛ سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها، وقال في القديم: تجب القراءة إذا أسر الإمام، ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال، ولنا وجوه:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم.
الحجة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى: {فاتبعوه} إلا أن يقال: إن كونه مأمومًا يمنع منه إلا أنه معارضة.
الحجة الثالثة: أنا بينا أن قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها، ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة، فكان قوله: {أَقِيمُواْ الصلاة} يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة.
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وقد ثبت تقرير وجه الدليل. فإن قالوا: هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِ، إلا أن يكون وراء الإمام، قلنا: هذا الحديث طعنوا فيه.
الحجة الخامسة: قوله عليه الصلاة والسلام للأَعرابي الذي علمه أعمال الصلاة: «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» وهذا يتناول المنفرد والمأموم.
الحجة السادسة: روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «مالي أراكم تقرؤن خلف إمامكم» قلنا: أي والله، قال: «لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن.